شكلت تجربة الرسول في استيعاب أصحابه، على الرغم من تردد بعضهم وأخطائهم وأحياناً نفاق البعض، مجالاً خصباً للتأمل والبحث، حيث قدَّم (ص) أطروحة مختلفة وجديدة في موضوع العلاقات الداخلية، تبدو لنا كما بدت في زمانها مستغربة بعض الشيء، خصوصاً إذا ما توقفنا عند بعض المحطات التي من شأنها إثارة المحذور الشرعي أو الأمني، وربما الفكري، كما نفهمه ونقيس عليه اليوم. وهدفنا من طرح هذه الأمور في هذه الفترة وغيرها توجيه الأنظار نحو مجالات أوسع في تحديد الداخل الإسلامي، وفق معايير مستنبطة من معطيات السيرة النبوية التي تشكل مصدراً كافياً في هذا المجال. ولعل موضوع ترسيخ الوحدة والتماسك الداخلي أول ما يسترعي الانتباه لدى مراجعة سيرته (ص) في التعاطي مع أصحابه، حتى لكأننا أمام معيارٍ لا يماثله معيار أو يتقدَّم عليه.
فقد عاش الرسول مع أصحابه في أجواء مفعمة بالود الحقيقي والصدقية الساطعة دفعت بأبي سفيان، وهو في ذروة عداوته للرسول والمسلمين، لإبداء إعجابه الشديد بذلك في قوله: «... ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حباً من أصحاب محمد بمحمد»(1).
والملفت في هذا المجال أن هذا النمط من العلاقة قد طغى على مجمل علاقاته (ص) مع سائر أصحابه، أو من اعتنق الإسلام عموماً، فلم تورد المصادر التي بين أيدينا أنه (ص) قد بادر لإخراج أحد من المسلمين أو إحراجه، فضلاً عن حرمانهم أو أذيتهم أو ما شابه ذلك، مجسداً بذلك منطوق الاية القرانية (... محمد رسول اللَّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح: 29) وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في سورة ال عمران مخاطباً رسوله:
(فبما رحمة من اللَّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك...) (ال عمران: 159).
وإذا كان الاستمرار بذلك وتطويره أمراً قائماً فالخطوات المطلوبة في هذا المجال كما نتابع الاية نفسها (... فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
وقد كان الرسول (ص) ملتزماً هذا النهج إلى أبعد الحدود، وكثيراً ما كان يردّد العبارات التي تشير إلى رفضه الشديد ازعاج أصحابه أو محاسبتهم حتى في المواقف الحرجة التي تسببوا فيها. ينقل الطبرسي في كتابه «إعلام الورى بأعلام الهدى» أنه في أعقاب عودة الرسول (ص) من تَبُوك تحسس نية مجموعة من أصحابه في قتله فلم يبادر (ص) إلى تغيير طريقه مكتفياً بالتشديد على مرافقيه (حذيفة بن اليمان، عمار بن ياسر) في وجوب متابعة الطريق. وبعد إخفاق هذه المجموعة يكشف الرسول لصاحبيه ما جرى، الأمر الذي دفعهما لسؤاله عن سبب امتناعه عن قتلهم فأجابهم على عادته الشريفة في مثل هذه المواقف «... أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه»(2) وتنتهي الرواية بأن سمَّى الرسول أفراد هذه المجموعة أمام مرافقيه طالباً منهما كتمان ذلك.
وفي موقف اخر له (ص) زاخر بالعطف النبوي العميق ينقل الواقدي في مغازيه جدالاً جرى بين صحابيين هما: عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد، في أعقاب سرية الأخيرة إلى بني جذيمة حيث كان الرسول منزعجاً مما صارت إليه هذه السرية، وقد تناهى إليه (ص) هذا الجدال فالتفت إلى ابن الوليد، الذي مضى وقت قصير على دخوله الإسلام، قائلاً: «... ذروا لي أصحابي! متى ينْك أنفُ المرء ينْك»(3) في إشارة لمكانة عبد الرحمن بن عوف وصحبته وجهاده في الإسلام ضمن الرعيل الأول. كما يظهر فقد وصف الرسول أصحابه بالمكان العزيز من الإنسان «أنف المرء» ومحل العنفوان والقوة فيه. قد يكون موقف الرسول من أصحابه المنخرطين بقوة في رسالته واضحاً ومفهوماً وهو تفاعل طبيعي في كل الأحوال، لكن ما يثير المتابع أن هذا الموقف المتسامح لم يقتصر على هذا النوع من الأصحاب بل تعدَّاه في بعض الأحيان إلى نوع اخر لم يبادل الرسول طريقته هذه بل ربما شكل عقبة فعليه أمام نمو الإسلام وانتشار دعوته.